صحفيون في الظل.. فريلانسرز مصر بين التهميش وغياب الحماية
بحس إني صحفي درجة سادسة.. هكذا بدأ أحد الصحفيون المستقلون المتخصصون في الشأن الاقتصادي، حيث يروي يومياته مع العمل الصحفي في مصر، ويتحدث بصوت يحمل قدرًا من التوتر ويكمل: "بضطر أشتغل باسم مستعار، معنديش مؤسسة تحميني، بخاف من المساءلة ومليش حماية نقابية، وساعتها مبفرحش حتى بنجاح شغلي".
الصحفي المُستقل خريج كلية الإعلام عام 2020، يعمل بشكل حر في عدد من المنصات المصرية والدولية، ويركز في تحقيقاته على ملفات شائكة مثل الفساد والسياسات الاقتصادية المثيرة للجدل، لكن في بلد تتراجع فيه حرية الصحافة عامًا بعد عام، يظل اسمه الحقيقي غائبًا عن كثير من تحقيقاته.
عائق النقابة
وفقًا لقانون نقابة الصحفيين المصريين، يُعد من يمارس المهنة تحت مظلة "صحفي" دون عضوية بالنقابة "منتحلًا صفة صحفي"، ما يعرّضه للتوقيف والسجن أو الغرامة، هذه المادة إلى جانب شروط الانضمام المعقدة، تجعل مئات الصحفيين، خارج مظلة الحماية القانونية، حيث قال أحدهم "أنا خريج قسم صحافة، وعندي 6 سنين خبرة، بس القانون القديم بيشترط أشتغل في صحيفة ورقية عشان أكون عضو"، لذلك ساعات بضطر أشتغل باسم محرر صحفي أو كاتب.
هذا الوضع يجعل اللجوء للاسم المستعار ضرورة أمنية، خاصة عند العمل على قصص تزعج السلطات أو تتناول قضايا تمس الأجهزة السيادية أو المال العام.
واقع صحفي خانق
تقرير مراسلون بلا حدود لعام 2024 صنّف مصر في المرتبة 170 من أصل 180 دولة، متراجعةً أربعة مراكز عن العام السابق. التقرير وصفها بأنها "من أكبر السجون للصحفيين"، في ظل سيطرة الدولة وأجهزتها على غالبية وسائل الإعلام، مع غلق الباب أمام المنصات المستقلة أو الأصوات المعارضة.
عشرات الصحفيين المستقلين يعانون من الخوف ذاته، سواء خلال تغطيتهم الميدانية أو حتى تواصلهم مع المصادر، الذين أصبحوا أكثر حذرًا في الحديث، ويطلبون مراجعة التصريحات عبر المتحدث الرسمي، إن وافق أصلًا على الحديث.
الكارنيه يصنع الفارق
على الجانب الآخر لا تبدو صحفية أُخرى أفضل حالًا، رغم كونها عضوًا بنقابة الصحفيين، تعمل حاليًا كفريلانسر، لكنها تحتفظ ببطاقة صحفية قديمة تعود لفترة عملها في صحيفة حكومية، وهو ما أنقذها في مواقف عدة، حين أوقفها أفراد من الشرطة أثناء التصوير، "أول حاجة بيسألوها 'شغالة فين؟'، أول ما أطلع الكارنيه بيهدوا"، تحكي وتقول:
"البطاقة لا تحميني دائمًا، أثناء تغطية تحقيق عن اللاجئين السودانيين، أوقفها رجال الشرطة، وحذفوا الصور والفيديوهات من معداتها، "وقفوني شوية وبعدين سابوني، بس الموضوع كان مرعب"
القانون رقم 180 لسنة 2018 يقيد الحق في التصوير داخل الأماكن العامة بضرورة الحصول على تصريح رسمي، وهو شرط تطبيقيًّا صعب المنال، إذ ترفض الجهات الأمنية منح التصاريح أو تماطل فيها دون إبداء أسباب.
ممنوعون من التصريح
وضع الصحفي المستقل في مصر أكثر هشاشة. فهو ليس معترفًا به قانونيًا، ما يجعله غير قادر على طلب تصريح تصوير من الأساس، الخيار المتاح أمامه: التصوير دون إذن والمخاطرة، أو استخدام صور أرشيفية من الإنترنت، أو التخلي عن الموضوع بالكامل.
استطلاع رأي تم إجراءه على 50 صحفيًا فريلانسر أظهر أن:
- 54% يضطرون للتصوير بدون تصريح.
- 26% يستخدمون صورًا أرشيفية.
- 10% يتراجعون عن تنفيذ القصة.
في ذات السياق، أفاد 70% من المشاركين بأنهم يشعرون بتهديد أمني (مرتفع أو متوسط) أثناء أداء عملهم الصحفي، في حين قال 6% فقط إنهم لا يشعرون بأي تهديد.
متاعب النشر وعوائد لا تليق
إلى جانب المخاطر الأمنية، يعاني الفريلانسرز من تأخر النشر، ما يعني تأخر الحصول على مستحقاتهم المالية، التي لا تتجاوز في أغلب الأحيان بضع آلاف من الجنيهات، حيث قال أحدهم "باختار المواقع اللي بتدفع خلال أسبوعين، وده بقى معيار أساسي في اختياراتي".
صحفي التحقيقات يشكو هو الآخر من بطء عملية النشر في كثير من المؤسسات: "باقترح فكرة، أستنى الرد، أشتغل، بعدين تحرير، وبعدها مراجعة، وفي الآخر يتأخر النشر، الفكرة بتتحرق"، الاستطلاع أظهر أن 90% من الفريلانسرز تأخر نشر موضوعاتهم لأكثر من شهر على الأقل مرة واحدة.
لا تأمين ولا استقرار
مشكلة أخرى يواجهها الصحفيون المستقلون هي غياب شبكات الأمان الاجتماعي، لا تأمين صحي لا معاش لا عقد، "لو مرضت، شغلك كله بيقف، ومفيش جهة تحميك"، يقول أحد الصحفيين: "كلنا خارج المظلة، مفيش ضمان اجتماعي ولا استقرار، المهنة بتستنزفنا نفسيًا وجسديًا".
لا اعتراف ولا تقدير
أمام هذه الضغوط يشعر الصحفيون بأنهم يعملون في الظل، منبوذًا من الجميع، "المواقع شايفاني مجرد صحفي متعاون، أسرتي شايفاني قاعد في البيت، والدولة بتعتبرني منتحل صفة، والنقابة لو اعترفت بيا، هتقول عليا صحفي إلكتروني".
ينهي أحد الصحفيين حديثه بنبرة حزينة: "خايف أصحى في يوم ألاقي نفسي شبح، شفت صحفيين عباقرة انهاروا من الضغط، المهنة خدت منهم عمرهم من غير ما تديهم لا أمان ولا حتى كلمة شكر".




